وَهْم المسؤولية الزائفة
كتب_ حماد مسلم
للاسف يقع الكثير في تلك الصفة التي نراها حسنة وهي باطنها زائفةعندما تعتاد على الأدوار المسؤولة، وتجد نفسك لا تهدأ حتى تقوم بدور ما ومسؤولية ما، ولكن بشكل قسري، وقوة لا يمكن مقاومتها، وكأنها تسحبك لأداء تلك المهمة بعيار زائد من العطاء، ولمسة باذخة من الحرص، وبدوافع وقتية خادعة، يغلفها شعور المتعة أو الذمة أو الأمانة أو المثالية التي تريد لكل شيء الكمال والتميز.. أستطيع أن أقول هنا إنك تقع في فخ المسؤولية الوهمية!
المسؤولية الوهمية هي التي ترهقك، وتثقل مطاياك دون أن تشعر، ثم شيئًا فشيئًا تؤدي بك لسواحل التعب والصداع والملل أو حتى الهروب.
في ظاهرها الجد والاجتهاد وأداء الواجب، وفي باطنها تعذيب للنفس، وسحق لأبسط حقوقها في الراحة والتوقف والاسترخاء والهدوء.
مَنْ يدمن تلك المسؤولية لا يمكنه المضي بدونها، ويجدها تسبقه في كل منحى من مناحي الحياة، في عمله، في بيته ومع عائلته، وفي تفاصيل يومياته.
فإن هي توقفت في جهة هربت للأخرى، وكأنها محجورة في قالبك لا يمكنها المغادرة!
ولكنها يجب أن تغادر، وأن تتركك حينًا تلو آخر بلا تفكير، بلا مهمة يجب أن تفعلها، ومهمة لم تفعلها بعد، ومهمة عالقة، ومهمة مؤجلة تنتظر دورها.
هناك في آخر عقلك تصطف طوابير من المسؤوليات المهمة وغير المهمة، العاجلة وغير العاجلة، تتساوى عند خط واحد، وتنادي بأعلى صوتها، تصيح بك لتأخذ بها نحو الإنجاز.
ولا فائدة؛ فخلف كل منها يتوالد المزيد والمزيد من المتطلبات، وصوتك الداخلي يزداد قوة وإلحاحًا حتى تتوقف، ولكنك تتجاهل، وتوصمه بالتكاسل والإذعان والتراخي، وربما باللامسؤولية.. وهذا عندما يتمكن منك فخ المسؤولية الوهمية؛ فتشدك حتى تكمل الصفوف واحدًا تلو الآخر، حتى تصل للاحتراق؛ فتحترق قدراتك وأعصابك ومشاعرك، وتصبح سريع الانفعال، وتتلاشى منك سمات الراحة؛ فتبدو منغصًا بصداع لا يفارقك، وآلام ظهر ورقبة مشدودة ونَفَس ضيق.
يطفح الكيل بالشعور، ويتصبغ الفكر بالقلق، وتتعطل العجلة؛ فتغدو حتى المهام الأساسية المهمة عبئًا ثقيلاً؛ لا تقوى على القيام به!
وهذه هي عاقبة الوهم، عندما تتوهم أنك تقوم بأدوار ومهام من واجبك ودورك القيام بها، كرعاية أطفالك وتعليمهم، والقيام بواجبات المنزل والزواج، والعمل والتطوير الشخصي، والاهتمام بالجسد والصحة، والعلاقات والمبادرات الاجتماعية.. تقوم بها جميعا على وتيرة واحدة من العطاء بلا توقف ولا محطات راحة كافية، وإنما محطات زائفة، يكسوها تأنيب الضمير على التوقف، وإلحاح الشعور بفوات شيء، أو حدوث مصيبة ما.
تلك الدوامة اللامتناهية من المسؤوليات تبدو سمات شخص معطاء مسؤول ورائع، ولكنها -للأسف- لا تدوم؛ لأن هذا الشخص لا يستطيع الاستمرار بهذا المنوال، وستخترقه نوبات فتور للهمة، وتعطُّل للقدرات؛ لأنه لم يتوازن، ولم يجعل المسؤوليات متفاوتة، بل تعاطى عقله معها على وتيرة واحدة، ومستوى واحد من الجدية والالتزام والتفاني.
وهذا ما لا يطيق البشر؛ فالنفس ترهق وتتعب؛ ويحتاج الإنسان لتعلُّم مهارات التفويض، وتنظيم الأولوليات، وإعطاء كل مهمة حجمها ووقتها الذي يستحق دون مبالغة ولا تضخيم، ودون سحق للذات واحتياجاتها.
“مفتاح التوازن في حياتك هو أن تتذكر أنه عندما تكون خارج التوازن في جانب واحد فقد حان الوقت لإيجاد طريقة للعودة إلى مركزك” – ديبورا داي.
إن أخذتك اللحظة واندفعت فكن واعيًا لتلك الاندفاعة؛ حتى لا تتكرر؛ لأنك ستدفع الثمن من صحتك ووقتك إن لم توقفها.
فالمسؤولية واجب إنساني، يعطي معنى لوجودنا في الحياة، ولكننا أحيانًا نحتاج إلى أن نحظى بلحظات لا وجود للمسؤولية فيها؛ حتى نتمكن من المسير بدون تعطُّل يُربك الحياة، وتعب يشل عجلة التقدم والإنتاج والاستمتاع بالحياة.
“أفضل طريقة لإعادة شحن نفسك هي الانفصال عن كل شيء”
وبغض النظر كيف يدمن أحدنا تلك المسؤوليات مهما تنوعت مساراتها وأحجامها؛ فلكل منا قصة، أو طبع مكتسب، أم نمط شخصية، أم سمة للهروب من اكتئاب خفي، أم قلق وخوف من المستقبل.. وغير ذلك، لكنها تجتمع بكونها فخًّا، يقع فيه المميزون والمنجزون والقلقون كثيرًا، وأصحاب النزعة المثالية.
فراجع نفسك دائمًا قبل أن يتمكن منك ذلك الوهم بلا رحمة؛ فينهش عظامك وطاقتك، ويرميك جثة هامدة بلا روح ولا قدرة على المواصلة.
لا تخنق نفسك بالمسؤوليات أكثر من اللازم، وتبالغ في معاييرك حتى لا تحترق، وإنما هي “ساعة وساعة”، فإذا كان الأمر بالدين كذلك فما بالك بباقي مسؤوليات الحياة.
قال رسول الله ﷺ: “والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرشكم وفي طرقكم، لكن يا حنظلة ساعة وساعة، ساعة وساعة، ساعة وساعة” (رواه مسلم).